أقسام الوصول السريع ( مربع البحث )

أخر الاخبار

فاذا فرغت فانصب والى ربك فأرغب





(فَإِذَا فَرَغَتَ فَأَنصَبَ * وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب)
فاذا فرغت فانصب والى ربك فأرغب

هذه قاعدة قرآنية، وكلمةٌ جامعة هي قاعدة من قواعد تربية النفس، وتوجيه علاقتها مع الله عز وجل".

وهذه القاعدة بدئت بالفاء التي تسمى بفاء التفريع المرتبطة بالجملة الشرطية، يقول الله عز وجل:( ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ *الَّذِي أَنقَضَ ظهرك* وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ* فَإِنَّ مَعَ العُسرِ يسرا *إِنَّ مَعَ العسر يسرا* فَإِذَا فَرَغْتَ فَأَنصَبَ *وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب) [الشرح: ۱ - ۸]
وغني عن التفصيل أن هذه السورة العظيمة - سورة الشرح " احتوت على ذكر عناية الله تعالى لرسوله بلطف الله له، وإزالة الغم والحرج عنه، وتيسير ما عسر عليه، وتشريف قدره؛ لِيُنَفِّسَ عنه؛ فمضمونها شبيه بأنه حجةٌ على مضمون سورة الضحى؛ تثبيتا له بتذكيره سالف عنايته به، وإنارة سبيل الحق، وترفيع الدرجة؛ ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان ليقطع. عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي ﷺ)
فإذا اتضح هذا تبين موقع هذه القاعدة التي نتحدث عنها :( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب )والتي يأمر الله فيها نبيه ﷺ إذا انتهى من طاعة أو عمل ما ويبدأ في عمل أو طاعة أخرى، وأن يرغب إلى ربه في الدعاء والعبادة، والتضرع والتبتل لأن حياة المسلم الحق كلها الله، فليس فيها مجال لسفاسف الأمور، بل إن اللهو الذي تبيحه الشريعة لأصناف من الناس كالنساء والصبيان، أو في بعض الأوقات كالأعياد والأفراح؛ فإن من أعظم مقاصد ذلك أن يستجم الإنسان – والاستجمام للجد مرة ثانية من الشغل النافع - وأن يعيش العبودية لله في جميع أحواله، فهو يعيشها في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي الحضر والسفر، وفي الضحك والبكاء، ليتمثل حقا قول الله تعالى:( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: ١٦٢]، متأسيًا - قدر الطاقة بالثلة المباركة من أنبياء الله ورسله الذين أثنى الله عليهم بقوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ، وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهبهَا وَكَانُوا لَنَا خاشعين ) [الأنبياء: ٩٠].

قال ابن القيم رحمه الله: «وأما الرغبة في الله، وإرادة وجهه، والشوق إلى لقائه، فهي رأس مال العبد، وملاك أمره، وقوام حياته الطيبة، وأصل سعادته وفلاحة ونعيمه، وقرة عينه، ولذلك خلق، وبه أمر، وبذلك أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلا بأن تكون رغبته إلى الله عز وجل وحده، فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبة ومراده، كما قال الله تعالى:(فَإِذَا فَرَغتَ فَأَنصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب)
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة: (فإذَا فَرَغَتَ فَأَنصَبَ *وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَبَ) معنى عظيم، وهو أصل من الأصول التي تدل على أن الإسلام يكره من أبنائه أن يكونوا فارغين من أي عمل ديني أو دنيوي وبهذا نطقت الآثار عن السلف الصالح رحمهم الله:

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأمقت أن أرى الرجل فارغا لا في عمل دنيا ولا آخرة، وسبب مقت ابن مسعود رضي الله عنه لهذا النوع من الناس؛ لأن «قعود الرجل فارغا من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعينه في دينه أو دنياه من سفه الرأي، وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة".
ولقد دلّ القرآن على أن هذا النوع من الناس الفارغين - وإن شئت فسمهم البطالين ليسوا أهلا لطاعة أوامرهم، بل تنبغي مجانبتهم؛ لئلا يعدوا بطبعهم الرديء، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) [الكهف: ٢٨، يقول العلامة السعدي رحمه الله: ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إمامًا للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماما .
ومن هدايات هذه القاعدة القرآنية المحكمة:( فَإِذَا فَرَغْتَ فَأَنصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فارغب) أنها تربي في المؤمن سرعة إنجاز الأمور - ما استطاع إلى ذلك سبيلا – وعدمِ إحالة إنجازها إلى وقت الفراغ، فإن ذلك من الأساليب التي يخدع بها بعض الناس نفسه، ويبرر بها عجزه، وإن من عجز عن امتلاك يومه فهو عن امتلاك غده أعجز!

قال بعض الصالحين: «كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس علق ابن رجب رحمه الله على هذا فقال: يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقد ذلك ويعدونه خسرانا»، ومن جميل ما قيل في هذا المعنى ذينك البيتين السائرين:

إذا هجع النُّوامُ أسبلتُ عَبرتي     وأنشدت بيتًا فهو من أحسن الشعر

أليس من الخسران أن لياليا         تمر بلا شيء وتُحسب مـن عمري

ومن الحكم السائرة: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد! وهي حكمة صحيحة يشهد القرآن بصحتها، وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: إن التأخير له آفات وصدق رحمه الله، والشواهد على هذا كثيرة:
- فمن الناس من يكون عليه التزامات شرعية بينه وبين الله، كقضاء الصيام، أو أداء فرض الحج - مثلا - فتراه يسوّف ويماطل، حتى يتضايق عليه الوقت في الصيام، أو يفجأه الموت قبل أن يحج ولئن كان هذا قبيحًا ومذموما في حقوق الله؛ فهو في حقوق الخلق المبنية على المشاحة - أشد وأعظم، وكم ندم من كانت عليهم ديون حين تساهلوا في تسديدها وهي قليلة فتراكمت عليهم فعجزوا عنها، وصاروا بين ملاحقة الغرماء، والركض وراء الناس وإراقة ماء الوجه للاستدانة من جديد، أو للأخذ من الزكاة!! فهل من معتبر؟!
- ومن آثار مخالفة هذه القاعدة (فَإِذَا فَرَغَتَ فَانصَب *وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب): أن بعض الناس لا يهتبل ولا يستغل الفرص التي تسنح في طلب العلم وتحصيله، فإذا انفرط عليه العمر، وتقضى الزمن؛ ندم على أنه لم يكن قد حصل شيئًا من العلم ينفعه في حياته وبعد مماته!

وقل مثل ذلك في تفريط كثير من الناس - وخصوصًا الشباب والفتيات في التوبة، والإنابة، والرغبة إلى الله، بحجة أنهم إذا كبروا تابوا، وهذا لعمر الله من تلبيس إبليس

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى       ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله       وأنك لم ترصد بما كان أرصدا

وقوله تعالى - في هذه القاعدة التي هي مدار حديثنا -: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَأَنصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب) أبلغ وأعظم حادٍ إلى العمل، والجد في استثمار الزمن قبل الندم.



المصدر: قواعد قرانيه، أعدها: د. عمر بن عبد الله المقبل
©حقوق الطبع والنشر لأصحابها
تعليقات




    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -